إحدى مشكلات مصر الراهنة أنها أصبحت جسدًا بلا رأس، وكان الظن بعد الثورة أن المجلس العسكري يمكن أن يشكل ذلك الرأس، إلا أننا ينبغي أن نعترف بأنه لم ينجح في القيام بهذا الدور.
ليس بدليل التخبط الذي نحن فيه فقط، ولكن أيضًا بسبب التكلفة الباهظة التي تحملتها مصر جراء ذلك. فطوال ثمانية أو تسعة أشهر لم يفلح المجلس في أن يعيد الأمن والاستقرار إلى البلاد، الأمر الذي كانت له تداعياته الاقتصادية الوخيمة، ناهيك عن الأصداء التي خلفتها الفوضى في أوساط المواطنين العاديين، الذين بات يزعجهم كثيرًا ذلك الشعور بعدم الأمن.
ليس ذلك فحسب، وإنما اكتشفنا في نهاية تلك المدة أن شيئًا لم يتغير؛ لا في السياسة الأمنية التي تشهر في وجه المجتمع، ولا في أساليب القمع التي كان من ضحاياها هذا الأسبوع وحده نحو 30 مواطنًا غير أكثر من ألف جريح.
وفي كل ذلك لم تتوافر للسلطة الشجاعة الكافية سواء للاعتذار عما حدث أو الإشارة إلى القتلة أو محاسبتهم. وكانت النتيجة أن الجيش والشعب لم يعودا "يدًا واحدة" كما رددت ذلك هتافات الأسابيع الأولى للثورة.
وليتها صارت يدين أو أكثر فقط، وإنما أصبحت تلك الأيدي متوترة ومتوجسة، وبينها فجوة من الشك وعدم الثقة، ناهيك أن بعضها صار ملطخًا بدم أصحاب اليد الأخرى.
لا أظن أن أحدًا يستطيع أن يدعي بأن الحكومة الحالية يمكن أن تمثل الرأس الذي ننشده؛ لأن خبرتنا خلال الأشهر التي مضت أقنعتنا بأنها لا حول لها ولا قوة. وإنما هي واجهة يحركها المجلس العسكري كيفما يشاء أو يصدِّرها فيما لا يجب أن يتصدى له؛ لكي تنسب إليها الأخطاء وتبقى الإنجازات وحدها محسوبة له. وقد استقرت هذه السمعة، حتى إن أحدًا لم يعد يراهن على الحكومة ورئاستها، أو يأخذ كلامها على محمل الجد.
لهذا السبب أزعم أنه من الظلم أن يوجه كل اللوم إلى وزير الداخلية مثلاً؛ بسبب انقضاض رجال الأمن المركزي على المعتصمين السلميين في ميدان التحرير، أو استخدامهم العنف المفرط مع المتظاهرين الذي أسقط ذلك العدد الكبير من الضحايا.
ذلك أنه ما كان للوزير أن يقدم على غارة باطشة من ذلك القبيل إلا بعد موافقة المجلس العسكري، إن لم يكن بتوجيه منه. ولا تسأل عن مجلس الوزراء أو رئيسه بطبيعة الحال.
ربما ظن البعض أن ثمة رموزًا في مصر ما برحت تطل على المجتمع من خلال وسائل الإعلام، ولا بد أن بينهم أخيارًا يمكن أن يشكلوا رأسًا لذلك الجسم الحائر والمحبط. وهو رأي لا أختلف في شقه الأول، لكني أدعو إلى التفكير مَلِيًّا في شقه الثاني. إذ لست أشك في أن بين تلك الرموز أشخاصًا مقدرين يعدون من الأخيار في البلد. لكن الشرعية في عالم السياسة لا يكتسبها المرء بمجرد حضوره القوي في وسائل الإعلام.
ولا تقاس بما يملكه الفرد من فصاحة في التعبير أو قدرة على التمويل وإقامة المنصات واستجلاب الشاشات ومكبرات الصوت. لكن الشرعية تقاس بمقدار ما يمثله "الرمز" من حضور على الأرض، وليس في الفضاء؛ لأن حجم ذلك الحضور هو الذي يحدد حجم الدور المنوط بالرمز في المجال العام.
بناء على ذلك فإننا إذ نحترم الذين ترشحهم جماعاتهم أو يرشحون أنفسهم أو ترشحهم وسائل الإعلام للقيام بدور الرأس الذي يمثل المجتمع، فإن ذلك التمثيل يظل مجرحًا ومطعونًا فيه طالما لم يتح لنا أن نعرف أوزانهم الحقيقية في الشارع. وإن كان بوسعهم أن يدعوا تمثيلاً لأحزابهم أو جماعاتهم أو مجالسهم التي شكلوها من أصدقائهم ومعارفهم.
فإن أحدًا لا يستطيع أن يقول: إن شعب مصر اختارهم بملء إرادته. بالتالي فمن حق أي مواطن مهجوس بالشرعية السياسية أن يسأل كل الذين يتزاحمون على الواجهات والمنصات: من أنتم؟ وبأي صفة تتحدثون باسم جماهير طالعت صوركم في الفضاء ولم تمنحكم أصواتها؟
في التجربة التونسية كان الصراع في انتخابات الجمعية التأسيسية بين أكثر من مائة حزب ملأت الفضاء صخبًا وضجيجًا، وحين قال الشعب كلمته عبر صناديق الانتخابات تبين أن خمسة أحزاب فقط لها حضورها الحقيقي على الأرض، والباقون لم يكونوا أكثر من لافتات وحناجر عالية الصوت. وصار بوسع الأحزاب الخمسة أن تتكلم باعتبارها قوة سياسية في البلد.
أما في مصر فنحن لا نعرف على وجه الدقة ما هي القوى السياسة وما هي الفرقعة السياسية. ولا سبيل إلى التفرقة بين الاثنين إلا عبر الانتخابات، التي إذا تمت بحرية ونزاهة فإنها ستكون طوق النجاة ومخرجًا من البلبلة الراهنة؛ ذلك أنها وحدها الصيغة الكفيلة بتحديد أوزان الجميع بما يمكننا من التفرقة بين الحقيقة والوهم في الساحة السياسية.
فهل يمكن أن نقول بأن الخائفين من الانتخابات والساعين إلى تأجيلها دفعتهم إلى ذلك الرغبة في عدم دخول ذلك الامتحان خشية الرسوب فيه؟!
الكاتب: أ. فهمى هويدي
المصدر: موقع على بصيرة